الاحتكار في ميزان الفقه الإسلامي (3)
لقد بينت في المقالين السابقين أن الاحتكار هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه، وأنه يكون في كل ما يضر بالناس حبسه قوتاً كان أو غيره، وأنه جريمة اقتصادية اجتماعية يجب محاربته والتصدي له بشتى الوسائل، ومن مبادئ سياسة التشريع التي تتخذها الدولة في مقاومة الاحتكار ما يأتي:
1-جبر المحتكر على إخراج المادة المحتكرة المخزونة، وطرحها في السوق، ليبيعها هو بالسعر التلقائي الحر الذي كان سارياً قبل الاحتكار، مع زيادة يتغابن الناس في مثلها عادة، إزالة للظلم عن الناس، وتحقيقاً للربح المعقول للتاجر، توفيقاً وتنسيقاً بين المصلحتين. قال الإمام البهوتي -رحمه الله-:"ويجبر المحتكر على بيعه، كما يبيع الناس – أي بالسعر العام في السوق- دفعاً للضرر".( كشاف القناع، 3/188)، وجاء في مطالب أولى النهى (4/66) ما نصه: "ويجبر محتكر على بيع ما احتكره. كما في مبيع الناس دفعاً للضرر فإن أبى أن يبيع ما احتكره من الطعام وخيف التلف لحبسه عن الناس فرقه السلطان على المحتاجين إليه ويردون بدله عند زوال الحاجة وكذا سلاح لحاجة أي: احتيج إليه، فيفرقه السلطان أو نائبه ويردونه أو بدله عند زوال الحاجة".
2- البيع على المحتكر إذا تمرد: إذا أصر المحتكر – تعنتاً أو تمرداً – على الامتناع عن البيع بالسعر التلقائي في السوق الذي يحدده قانون العرض والطلب، تولى الحاكم – أو نوابه – بيع سلعه نيابة عنه، وبالسعر الذي كان سارياً قبل الاحتكار عدلاً، حتى لا يُضار هو ولا الناس.(بحوث مقارنه، للدريني 1/457).
هذا، ولا يترك العدل لإرادات الناس إذا تهاونوا في تنفيذه مقتضاه، لأن اطراح العدل ظلم محرم شرعاً، وكل إجراء يؤدى إلى تحقيق الحق والعدل فهو من الشرع.
3-حرمان المحتكر من الربح، وأخذه منه عقوبة ومعاملة له بالنقيض: هذا ضرب من التغريم بالمال عقوبة تعزيرية على معصية الاحتكار. أما المعاملة له بالنقيض، فلأن نيته السيئة في الاستغلال، ونزعته المفرطة في الربح تقتضى ذلك ، وهذه العقوبة قررها الفقهاء سياسة، إذ لم يرد نص بخصوصها منعاً للاستغلال المحرم، لأنه من الكبائر فهو كالربا ، كسب خبيث بالانتظار والتربص.(بحوث مقارنه، للدريني 1/ 458).
4- مصادرة الحاكم للمال المحتكر إذا خيف الهلاك على أهل البلد، وتفريقه عليهم للضرورة: والضرورة مستثناة من قواعد الشرع لقوله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(الأنعام: 119)
قالوا: للمضطر أن يأكل من مال الغير جبراً عنه لسد الرمق بثمن المثل، وهو قدر متفق عليه بين أئمة المذاهب، إذا بلغت الحال بالناس حد الضرورة والمجاعة، والاحتياج العام يأخذ حكمها من حيث الاستثناء.
5- تنظيم الاستهلاك، بتوزيع المواد الغذائية وغيرها بالقسطاس المستقيم عدلاً: ذهب المالكية إلى أنه لا يجوز لأحد أن يشترى من السوق – وقت الضيق – ما يُضيق به على المسلمين، فلا يشترى إلا قوت أيام أو أشهر، أو أقل حسب الأحوال، وأما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه كان يدخر لعياله قوت سنة، فمحمول على حال السعة ، وهذا ما نقله القاضي عياض عن أكثر العلماء.
6- منع التصدير إذا أضر بالناس: لا يجوز للدولة أن تصدر أي مادة أساسية ضرورية تمس حاجة الناس إليها، ولاسيما ما يتعلق منها بالغذاء والكساء، لأن التصدير إذا أضر بالعامة كان في معنى الاحتكار من حيث الأثر، ويجب إذا ازداد وفرة بحيث يغطى أضعاف حاجات الناس، حفظاً على المال الذي هو من ضروري الحفظ.(بحوث مقارنة، للدريني 1/462).
ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن فالاحتكار جريمة اجتماعية كبرى، ولهذا كان محرماً ممنوعاً، وما من شك أن من كان عنده وازع ديني فإنه لا يحتكر، لأن هذا الوازع الديني قد غرس فيه الخوف من عقاب الله في الدنيا والآخرة.
هذا وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المحتكر خاطئ، أي آثم عاص، وأن الله يقعده بمكان عظيم من النار يوم القيامة، وأنه يصاب بالجذام والإفلاس، وسواء أكان هذا على الحقيقة أم أنه رمز على أنه يصاب بعذاب دنيوي.
وكل هذا كفيل بغرس الوازع الديني الناهي عن هذه الجريمة التي هي في حقيقتها جريمة استغلال رأس المال لحاجة الجماعة الملحة إلى الغذاء والكساء والمأوى وسائر شئون مرافقها الخاصة والعامة، وعلى الدولة أن تتدخل لحماية أفرادها من عبث العابثين ومصاصي دماء الشعوب، وذلك باتخاذ الإجراءات المناسبة الكفيلة بقطع دابر الاحتكار وإعادة الثقة والطمأنينة إلى نفوس المواطنين.
د/ أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 16/9/2016م.