آداب المفتي
ولمَّا كان التبليغُ عن اللهِ سُبحانَهُ يعتمدُ العِلْمَ بما يُبلِّغُ، والصدقَ فيه لم تَصْلُحْ مَرْتبةَ التَّبليغِ بالروايةِ، والفُتْيا إلاَّ لِمَنْ اتَّصَفَ بالعِلْمِ والصِّدقِ، فيكونُ عالماً بما بَلَّغَ صادقاً فيه، ويكونُ مع ذلك حَسَنَ الطَّريقةِ مَرْضِيَّ السِّيرةِ عَدْلاً في أقوالِهِ وأفْعَالِهِ مُتَشَابِهَ السِّرِ والعَلانِيَةِ في مُدْخَلِهِ ومُخْرَجِهِ وأحوالِهِ.
فَحقِيقٌ بِمَنْ أُقِيمَ في هذا المَنْصِبِ أنْ يَعُدَّ لَهُ عُدَّتَه، وأنْ يَتَأَهَّبَ لهُ أهبته، وأنْ يَعْلمَ قدرَ المُقَامِ الذي أُقِيمَ فيهِ، ولا يكونُ في صدرِهِ حَرَجٌ مِنْ قَوْلِ الحقِ والصَّدْعِ بهِ فإنَّ اللهَ ناصِرُهُ وهادِيْهِ، وكيفَ وهو المَنْصِبُ الذي تولاه بِنَفسِهِ ربُّ الأربابِ، ولِيعلَمْ المُفْتِي عَمَنْ يَنُوبُ في فَتْواهُ، ولِيوقِنْ أنَّه مسئُولٌ غَداً ومَوقُوفٌ بينَ يَدي اللهِ.(إعلام الموقعين1/10).
وللمُفْتي آدابٌ ينبغي عليهِ أنْ يَتَحلَّى بها، مِنْها: أنْ يُحْسِن زِيَّهُ، مع التَّقَيُّدِ بالأحكام الشرعيةِ في ذلك، فَيُرَاعِي الطَّهارَةَ والنَّظافَةَ، واجتِنابَ الحريرِ والذَّهبِ والثِّيابِ التي فيها شيءٌ من شِعَاراتِ الكُفَّارِ، ولو لَبِسَ مِنْ الثِّيابِ العالِيَةِ لكانَ أَدْعَى لِقَبُولِ قَولِهِ، وينبغي لَهُ أنْ يُحسِنَ سِيْرَتَهُ، بتَحَرِّي مُوافَقةِ الشَّريعةِ في أفعَالِهِ وأقوالِهِ، لأنَّه قدوةٌ للنِّاس فيما يقولُ ويفعلُ، فَيَحْصُلُ بفعلِهِ قدرٌ عظيمٌ من البيانِ، لأنَّ الأنظارَ إليهِ مَصْروفةٌ، والنُّفُوسَ على الاقتداءِ بهديهِ مَوقُوفَةٌ.(تبصرة الحكام: لابن فرحون صـ21).
وأنْ يُصْلِحَ سَريْرَتَهُ ويَسْتَحْضِرِ عند الإفتاءِ النيَّةَ الصالِحَةَ مِنْ قَصْدِ الخلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيانِ الشَّرعِ، وإحياءِ العَمَِل بالكتابِ والسنةِ، وإصلاحِ أحوالِ الناسِ بذلك . ويستعينُ بالله على ذلك، ويَسأَلُهُ التوفيقَ والتسديدَ، وعليه مُدافَعَةُ النياتِ الخبيثةِ من قصدِ العُلو في الأرض والإعجابِ بما يقولُ، وخاصةً حيثُ يُخطئُ غيرُهُ ويُصيبُ هو، وقد ورد عن سحنون: فِتنةُ الجوابِ بالصوابِ أعظمُ من فتنةِ المالِ.( صفة الفتوى: لابن حمدان صـ11).
وعلى المفتي أنْ يكونَ عاملاً بما يُفتي بِهِ مِن الخيرِ، مُنتهياً عمَّا يَنْهِى عنهُ مِن المُحرمَاتِ والمكروهاتِ، لِيتَطَابَقَ قَولُهُ وفعلُهُ، فيكونَ فِعلُهُ مُصَدِّقاً لقولِهِ مُؤيِّدا له، فإنْ كانَ بضدِّ ذلكَ كانَ فِعلُهُ مُكذِّبا لقولِهِ، وصَاداً للمُسْتَفتِي عن قَبُولِهِ والامتِثالِ لهُ، لِمَا في الطبائِعِ البشريَّةِ من التأثُّرِ بالأفعالِ، ولا يَعْنِي ذلك أنَّه ليس لهُ الإفتاءُ في تلك الحالِ، إذْ ما مِن أحدٍ إلا وله زَلَّةٌ، كما هو مُقررٌ عند العُلماءِ أنَّه لا يَلزمُ في الأمرِ بالمعرُوفِ والنَّهي عن المُنكرِ أنْ يكونَ صاحِبُهُ مُؤتَمراً مُنتهياً، وهذا ما لم تكنْ مُخالَفَتُهُ مُسْقِطَةً لعدالتِهِ، فلا تَصحُّ فُتياه حينئذ.(الموافقات4/252).
وينبغي عليه أنْ لا يُفتي حالَ انشِغالَ قَلبُهُ بشدَّةِ غَضَبٍ أو فَرحٍ أو جُوعٍ أو عَطَشٍ أو إرهَاقٍ أو تَغَيُّرِ خُلُقٍ، أو كانَ في حالِ نُعاسٍ، أو مَرَضٍ شديدٍ، أو حَرٍ مُزعِجٍ، أو بردٍ مُؤلمٍ، أو مُدافَعةِ الأَخْبَثَينِ، ونحوُ ذلكَ من الحاجاتِ التي تَمنعُ صِحَّةَ الفِكْرِ واستِقَامَةَ الحُكمِ.(إعلام الموقعين4/227).
وإن كانَ عندَهُ مَنْ يَثِقُ بعلمهِ ودينهِ فينبغي لهُ أنْ يُشاورَهُ، ولا يَستقلُّ بالجوابِ تسامياً بنفسهِ عن المشاورةِ، وعلى هذا كان الخُلفاءُ الراشِدون، وخاصةً عمر رضي الله عنه، فالمنقولُ مِن مُشاورتِهِ لسائرِ الصحابةِ أكثرُ مِن أنْ يُحصرَ، ويُرجى بالمشاورةِ أنْ يَظهرَ لهُ ما قد يَخْفَى عليه، وهذا ما لم تكن المشاورة من قبيل إفشاء السر.(إعلام الموقعين4/256).
وليعلمْ المُفتيَّ أنَّه كالطبيبِ يطَّلعُ من أسرارِ الناسِ وعوراتِهِم على ما لا يطلعُ عليه غيرُهُ، وقد يَضرُ بهِم إفشاؤهَا أو يُعرِّضُهُم للأذى، فعليهِ كتمانُ أسرارِ المُسْتَفْتِينَ، ولئلا يَحولَ إفشاؤُه لها بين المُستفتِي وبين البَوحِ بصوره الواقعة إذا عرفَ أن سِرَّهُ ليس في مَأمنٍ.( إعلام الموقعين4/257).
وينبغي للمفتي مراعاةَ أحوالِ المُستفتِي، ولذلك وجوه، منها:
أ- إذا كان المستفتِي بطيء الفَهمِ ، فعلى المُفتِي التَّرفُّقُ به والصبرُ على تَفَهمِ سُؤالِهِ وتَفهيمِ جوابِهِ.(المجموع 1/48).
ب - إذا كان بحاجةٍ إلى تفهيمِهِ أموراً شرعيةً لم يَتَطرقْ إليها في سؤالِهِ، فينبغي للمُفتي بيانها له زيادةً على جوابِ سؤالِهِ، نُصحاً وإرشاداً، وقد أخذَ العلماءُ ذلك من حديثِ أن بعضَ الصحابةِ رضي الله عنهم قال يا رسولَ اللهِ إنَّا نركبُ البحرَ ونحمِلُ معنا القليلَ من الماءِ فإنْ توضأنا به عَطِشنا أفنتوضأُ به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« هو الطهورُ ماؤه الحلُ مَيتتُهُ»(أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح).
وللمُفتي أنْ يعدلَ عن جوابِ السؤالِ إلى ما هو أنفعُ، ومن ذلك قولُهُ تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(البقرة:215). فقد سأل الناسُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن المنفق فأجابهم بذكر المصرفِ إذ هو أهمُ مما سألوا عنه.( إعلام الموقعين4/158).
ج - أنْ يسأَلُهُ المُستفتِي عما هو بحاجة إليه فيُفتيه بالمنعِ، فينبغي أن يدلَهُ على ما هو عوضٌ منه، كالطبيبِ الحاذق إذا مَنعَ المريضَ من أغذيةٍ تضرُهُ يدلُهُ على أغذية تنفعه.(إعلام الموقعين4/159).
د - أنْ يسألَ عما لم يقعْ، وتكونُ المسألةُ اجتهاديةً، فيتركُ الجوابَ إشعاراً للمستفتي بأنه ينبغي له السؤالَ عما يعنيهِ مما له فيه نفعٌ ووراءُهُ عملٌ، لحديث:« إن الله كره لكم ثلاث قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»(أخرجه البخاري في صحيحه)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم وقال ابن عباس لعكرمة: من سألك عما لا يعنيه فلا تفته.(الموافقات 4/286:290).
هـ - أن يكونَ عقلُ السائلِ لا يحتملُ الجوابَ، فيتركُ إجابتَه وجوباً، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذبَ الله ورسوله".(أخرجه البخاري في صحيحه).
و- تركُ الجوابِ إذا خافَ المفتيُّ غائلةَ الفُتيا أي: هلاكاً أو فساداً أو فتنة يدبرها المستفتي أو غيره، والأصلُ: وجوبُ البيانِ وتحريمُ الكتمانِ إن كان الحكمُ جلياً(إعلام الموقعين4/175) فلا يتركُ المفتيُّ بيانَه لرغبةٍ ولا رهبةٍ لقول الله تعالى:{وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.(آل عمران:187).
لكن إنْ خافَ الغائلةَ فله تركُ الجوابِ، وكذا له أنْ يتركَ الفُتيا إن خاف أن يستغلها الظَّلمةُ أو أهلُ الفجورِ لمآربِهم.( حاشية ابن عابدين3/264).
فما أحوجَنا المفتينَ اليومَ ومَنْ يتصدرون للفتوى لهذه الآدابِ التي ينبغي أنْ يكونَ عليها المفتي، وليعلمْ أن الفتوى أمانةٌ ومهمةٌ عظيمةٌ، وأنَّه مسئولٌ بين يدي الله تعالى عما يَصدرُ منه.
د/أحمد عرفة
باحث دكتوراه بجامعة الأزهر
عضو الجمعية الفقهية السعودية
Ahmedarafa11@yahoo.com
نشر هذا المقال بجريدة صوت الأزهر في العدد الصادر بتاريخ 19/2/2016م.